سورة الفرقان - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


{يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا(28)}
الويل: الهلاك، فهو يدعو الهلاك ويناديه أنْ يحلّ به، والإنسان لا يطلب الهلاك لنفسه إلا إذا تعرّض لعذاب أشدّ من الهلاك، كما قال أحدهم:
أَشَدُّ من السّقم الذي يُذهِب السّقما ***
وقول الشاعر:
كَفَى بِكَ دَاءً أنْ تَرَى الموْتَ شَافِياً *** وحَسْبُ المنَايَا أنْ يكُنَّ أَمَانِيَا
فلما كانت المسألةُ أكبر منه وفوق احتماله نادى يا ويلتي احضري، فهذا أوانك لتُخلِّصيني مما أنا فيه من العذاب.
وقوله {لَيْتَنِي} [الفرقان: 28] تَمَنٍّ، والتمنّي طلب أمر محبوب لا سبيلَ إلى حصوله، كما قال الشاعر في التمني:
لَيْتَ الكَواكِبَ تَدْنُو لِي فَأَنظِمَهَا *** عُقودَ مَدْحٍ فَمَا أَرْضَى لكُمْ كَلمِي
وهذا أمر لا يمكن أنْ يُنال.
وآخر يقول:
فيا لَيْتَ الشَّبابَ يَعُودُ يَوْماً *** فَأُخبرَه بِمَا فعَل المشيبُ
فقصارى ما يعطيه أسلوب التمني أنه يدلّ على أمر محبوب، كنت أحب أن يحدث، لكن أيحدث بالفعل؟ لا.
وكلمة(فلان) تقولها كناية عن شخص لا تحب حتى ذِكْر اسمه، فعقبة(ابن أبي مُعيط) لم يقل: ليتني لم أتخذ أمية(بن خلف) خليلاً إنما قال(فلاناً) لأنه كاره له يبغض حتى ذكر اسمه.
والخليل: من الخُلَّة والمخالَّة يعني: الصداقة المتداخلة المتبادلة وفي ذلك يقول الشاعر:
وَلَمَّا التقَيْنَا قَرَّبَ الشَّوْقُ جَهْده *** خَليليْنِ ذَابَا لَوْعَةً وعِتَاباَ
كأنَّ خَلِيلاً في خِلاَلِ خَلِيلهِ *** تَسرَّب أَثْنَاءَ العِنَاقِ وغَابَا
ثم ذكر علة ذلك: {لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر}


{لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا(29)}
{خَذُولاً} [الفرقان: 29] صيغة مبالغة من الخذلان، نقول: خاذل وخذول، ومعنى خذلك أي: تخلّى عنك في الأمر بعد أنْ مدَّ لك حبالَ الأمل، فإذا ما جاء وقت الحاجة إليه تخلّى عنك وتركك، كذلك الشيطان يفعل بأوليائه، كما جاء في آيات أخرى: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [الحشر: 16] وفي آية أخرى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48].
وفي موضع آخر يقول لأتباعه: {ما أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22].
فحين يقولون له: لقد أغويتنا وأضللْتنا يقول لهم: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22] لا سلطانَ حجة أقنعكم به ولا سلطان قهر أحملكم به وأقهركم على طاعتي، بل كنتم على(تشويرة): {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22].
ثم يقول الحق سبحانه عن رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي}


{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا(30)}
القوم: قوْم الرجل: أهله وعشيرته والمقيمون معه ويجمعهم: إما أرض، وإما دين. وسُمُّوا قَوْماً لأنهم هم الذين يقومون على أمر الأشياء، فهم الرجال خاصة؛ لأن النساء المفروض فيهن السكن والقرار في البيوت.
والحق تبارك وتعالى يوضح لنا هذا الفرق في قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} [الحجرات: 11] إذن: فالقوم هم الرجال خاصة.
ومن ذلك أيضاً قول الشاعر:
وَمَا أدري ولَسْتُ إخَالُ أَدْرِي *** أَقُوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِساءُ
وقوله تعالى: {إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُوراً} [الفرقان: 30] أضاف القوم إليه صلى الله عليه وسلم لأنه منهم يعرفونه ويعرفون أصْله، وقد شهدوا له بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق قبل أن يُبعثَ، وكان عندهم مؤتمناً على نفائس أموالهم؛ لذل خاطبهم الحق تبارك وتعالى بقوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
إذن: فالرسول ليس بعيداً عنكم، ولا مجهولاً لكم، فمَنْ لم يؤمن به كرسول ينبغي أنْ يؤمن به كأسْوة وقدوة سلوك لسابق تاريخه فيكم.
لذلك نرى أن سيدنا أبا بكر ما انتظر من رسول الله دعوةً، ولا أنْ يقرأ له قرآناً، أو يُظهِر له معجزة، إنما آمن وصدَّق بمجرد أن قال رسول الله، فما دام قد قال فقد صدق، ليس بمعجزة رآها أبو بكر، إنما برصيده القديم في معرفة رسول الله في سلوكه وخُلُقه، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَدع الكذب على الخَلْق، ويكذب على الخالق.
وكذلك السيدة خديجة: هل انتظرت من رسول الله ما يُثبت نبوته؟ إنها بمجرد أن قال رسول الله صدَّقتْ به، ووقفت بجانبه وثبَّتته وهدَّأتْ من روعه، وقالت له: (والله لا يُسلمك الله أبداً، إنك لتصِلُ الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الدهر).
ومعنى: {مَهْجُوراً} [الفرقان: 30] من الهجر وهو قَطْع الصلة، فإنْ كانت من جانب واحد فهي هَجْر، وإن كانت من الجانبين فهي(هاجراً). والمعنى: أنهم هجروا القرآن، وقطعوا الصلة بينهم وبينه، وهذا يعني أنهم انقطعوا عن الألوهية وانقطعوا عن الرسالة المحمدية، فلم يأخذوا أدلة اليقين العقدية، وانقطعوا عن الرسالة المحمدية حينما كذَّبوا بها، وانقطعوا عن الأحكام حينما عَصَوْها، وبذلك اتخذوا هذا القرآن مهجوراً في كل هذه المسائل: العقائد والعبادات والتصديق بالرسول.
مع أن العرب لو فهموا قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] لمجّدوا القرآن وتمسَّكوا به، فهو الذي عصمهم وعصم لغتهم، وأعْلَى ذِكْرهم بين الأمم، ولو أن كل أمة من الأمم المعاصرة أخذتْ لهجتها الخاصة الوطنية، وجعلت منها لغةً لتلاشت العربية كلغة.
وفي كثير من بلدان الوطن العربي لو حدَّثوك بلهجتهم الخاصة لا تفهم منها شيئاً، ولولا أن الفُصْحى لغة القرآن تربط بين هذه اللهجات لأصبحتْ كلٌّ منها لغةً خاصة، كما حدث في اللغات اللاتينية التي تولدت منها الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية، ولكل منها أسسها وقواعدها الخاصة بها، وكانت في الأصل لغة واحدة، إلا أنها لا رابطَ لها من كتاب مقدس.
فالحق تبارك وتعالى يُنبِّههم إلى أن القرآن فيه ذِكْرهم وشرفهم وعزتهم، وفيه شهرتهم وصيتهم، فالقرآن جعل العرب على كل لسان، ولولاه لذابوا بين الأمم كما ذابتْ قبلهم أمم وحضارات لم يسمع عنها أحد.
لذلك يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إنْ تؤمنوا بما جئت به يكُنْ حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوا عليَّ قولي صبرتُ حتى يحكم الله بيني وبينكم».

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13